كنز فرنسا الوطني.. رحيل جان بول بيلموندو أيقونة الفن السابع

غرد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عبر تويتر واصفا جان بول بلموندو بأنه “كنز وطني”، قائلا إنه “سيبقى إلى الأبد لو مانيفيك (الرائع)”، نسبة إلى أحد أفلامه في السبعينيات.
بعد مسيرة فنية سينمائية حافلة بالعطاء والجوائز والتكريمات، بأكثر من 80 فيلما، رحل أيقونة السينما والمسرح والثقافة الفرنسية جان بول بيلموندو يوم الاثنين 6 سبتمبر/أيلول عن عمر ناهز 88 عاما في العاصمة الفرنسية باريس.
واختار “الممثل الحرباء” أن يتدثر بلونه الأبيض الأبدي الأخير ويغادر في هدوء، حيث قال محاميه ميشال غوديست الذي أعلن الخبر لوكالة الأنباء الفرنسية “كان منهكا جدا في الآونة الأخيرة. وقد أسلم الروح بهدوء”.
ويعتبر “بيبيل” -مثلما يلقب في الأوساط الفنية- إحدى أيقونات الفن السابع في فرنسا، حيث ارتبط اسمه بالموجة الجديدة في السينما الفرنسية، وترك وراءه أدوارًا لا تُنسى ومحفورة في ذاكرة الجمهور منذ ظهوره الأول في “إلى آخر نفس” “A bout de souffle” أو مشاهده في فيلم “لو غينيولو” Le Guignolo التي ظهر فيها معلقا بطوافة كانت تحلق فوق أجواء مدينة البندقية الإيطالية.
وقال غريم بيلموندو وصديقه اللدود، آلان دولون الذي شارك معه في الكثير من الأفلام بعد سماعه خبر وفاته، عبر قناة “سي نيوز” (CNews) الإخبارية “أنا محطّم بالكامل. سأحاول الصمود كي لا أحذو حذوه بعد 5 ساعات… قد يكون من الجيد لو نرحل كلينا معا. هو كان جزءا من حياتي، لقد انطلقنا سويا قبل 60 عاما”.
وغرد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عبر تويتر واصفا جان بول بيلموندو بأنه “كنز وطني”، قائلا إنه “سيبقى إلى الأبد لو مانيفيك (الرائع)”، نسبة إلى أحد أفلامه في السبعينيات.
وأما المندوب العام لمهرجان كان السينمائي تييري فريمو فوجه عبر صفحة المهرجان على تويتر تحية إلى الممثل الراحل كاتبا “شكرا جان بول”. وأشاد بـ”سخائه كإنسان وممثل اخترع بعض أعظم اللحظات في تاريخ السينما”.
وقد حصل بيلموندو في عام 2011 على السعفة الذهبية الفخرية لمهرجان كان السينمائي عن مجمل أعماله ومسيرته المهنية، وفي عام 2019 كرمه المهرجان مرة أخرى من خلال الملصق الخاص بنسخته 71، الذي تضمن لقطة من فيلم “بيير المجنون” Pierrot le fou للمخرج جان لوك غودار مع آنا كارينا الذي تم إنتاجه عام 1965.
بداية صعبة للحلم
ولد جان بول بيلموندو في 9 أبريل/نيسان 1933 في منطقة “نويي سور سان” بفرنسا، ورغم أنه كان تلميذا سيئا في المدرسة، فإنه كان ملاكما جيدا واحترف رياضة القفاز لدرجة فوزه في 3 مباريات متتالية بالضربة القاضية.
وكانت نشأته في أسرة فنية، حيث كان والده بول نحاتا مشهورا وأما والدته سارة فكانت رسامة، قد غرست فيه بذرة الفن وشجعته على الولع والغرام بالتمثيل، وفي سن الـ16 أخبر والده أنه يريد أن يصبح ممثلا.
وبدأ رحلة كفاحه من أجل حلمه الأبدي من خلال متابعة بعض الدروس المسرحية للمخرج رايمون جيرارد، الذي أعطاه الفرصة لأداء بعض الأدوار المسرحية، وشجعه على الدخول إلى المعهد العالي للفن الدرامي، لكن رحلة الحلم لم تكن سهلة أبدا حيث فشل الشاب بيلموندو في اختبار الدخول للمعهد مرتين ولم ينجح إلا في المحاولة الثالثة في أكتوبر/تشرين الأول عام 1952.
ورغم دخوله للمعهد العالي للفن الدرامي وقضائه 4 سنوات فيه، فإن أساتذته لم يكونوا يقدرون موهبة بيلموندو الفنية، ولم يتوقعوا أن يحقق النجاح الذي صادفه بعد ذلك في مسيرته الاحترافية، حتى والده لم يعترف بموهبته التمثيلية إلا متأخرا لما صار جون مشهورا.
نجم أفلام الموجة الجديدة
وانطلق بيلموندو صاحب الكاريزما العالية والابتسامة المشرقة، في مسيرته التمثيلية على خشبة المسرح، قبل أن تحمله عطاءاته على مر العقود إلى قمة شباك التذاكر الفرنسي، مع حصيلة تراكمية لأعماله بلغت 130 مليون مشاهد في صالات السينما.
ولعل أشد ما ميز بيبيل طوال مسيرته هو نجاحه في الجمع بين إتقان أفلام الحركة والكوميديا، حيث قدم توليفة رائعة ومزيجا ناجحا لهذين الصنفين في أدواره العديدة، التي تجسد مسيرة حافلة بدأت في ستينيات القرن الماضي. وقد شكل منذ تلك الفترة أحد أكثر النجوم شعبية من أبناء جيله، مع آلان دولون وبريجيت باردو، وكلوديا كاردينال وصوفيا لورين.
ورغم بداياته المسرحية، فإن جان بول بيلموندو سرعان ما توجه إلى السينما ليحاول إثبات موهبته الفنية، فكانت مشاركته الأولى في فيلم “أصدقاء الأحد” Les Copains du dimanches” عام 1956 الذي لم يخرج إلى القاعات إلا عام 1967 نتيجة صعوبات إنتاجية، ثم كانت الفرصة مواتية لبيلموندو عام 1958 ليثبت موهبته في التمثيل من خلال فيلم “كوني جميلة واصمتي” Sois belle et tais-toi، للمخرج مارك أليغري الذي تقاسم بطولته مع صديقه وغريمه المستقبلي ألان ديلون الذي كان يحبو في خطواته الأولى هو أيضا.
ولأن من عادات القدر أن يخبئ للمجتهد مفاجآت سارة، مثلما يقول المثل الفرنسي، لعبت الصدف دورها مع بيلموندو حين جمعه القدر في الشارع مع الكاتب والمخرج السينمائي الفرنسي المرموق جان لوك غودار الذي قال له “تعال إلى غرفتي في الفندق، سنصوّر معا وسأعطيك 50 ألف فرنك”.
ووُلد عن هذا اللقاء فيلم “إلى آخر نفس” À bout de souffle في عام 1960 الذي حقق نجاحا كبيرا لدى الجماهير والنقاد على حد سواء. ولاحقا تواصل التعاون بين الرجلين في عدة أعمال وأفلام ناجحة على غرار ” المرأة هي المرأة” Une femme est une femme سنة 1961 و”بيير المجنون” Pierrot le fou عام 1965.
وتوالت نجاحات جان بول بيلموندو كنجم شباك أوحد، فيما صار يعرف بعد ذلك بأفلام الموجة الجديدة، من خلال تعامله مع أبرز المخرجين من أمثال كلود لولوش وكلود شابرول في فيلم “الطبيب بوبول” Docteur Popaul عام 1972 وبلوي مال في “لو فولور”السارق” Le Voleur و فرانسوا تروفو في “لا سيران دو ميسيسيبي” La Sirène du Mississippi و جان بيار ميلفيل في فيلم “ليون موران، بريتر” Léon Morin, prêtre.
وشكلت أفلام الحركة التي قام بها بيلموندو ذروة نجاحه الجماهيري على غرار “رجل ريو” L’Homme de Rio لفيليب دو بروكا الذي حقق 4,8 ملايين مشاهد في السينما عام 1964، و”المحترف” Le Professionnel عام 1981 لجورج لوتنر و”لاس ديزاس” L’As des as عام 1982 لجيرار أوري الذي حقق أكثر من 5 ملايين مشاهد في القاعات.
وشكلت أغلب هذه الأفلام دعائم أساسية في تاريخ صناعة السينما الفرنسية، وأرست أسسا جديدة للفن السابع، وأمدته بأبعاد فكرية وجمالية وتقنية حديثة.
وقد لفتت موهبة جان بول بيلموندو عدة مخرجين أوروبيين، حيث شارك في عدة أفلام أوروبية وإيطالية خاصة مثل فيلم “لافياشيا” La viaccia للمخرج الإيطالي ماورو بولوغنيني، وقدم فيه البطولة صحبة النجمة كلوديا كاردينال، في حين شاركته البطولة النجمة صوفيا لورين في فيلم “لا سيسيارا” La ciociara للمخرج فيتوريو دي سيكا.
ورغم تقدمه في العمر وإصابته بجروح خطيرة وهو يصور أحد أفلامه مما أبعده لفترة عن الثمثيل، فإنه عاد مع المخرج كلود لولوش عام 1988 ليؤدي دورا معقدا في فيلم “مسار طفل مدلل” Ltinéraire d’un enfant gâté، وهو ما أهله لأن ينال في العام نفسه جائزة سيزار أفضل ممثل.
وبعد ذلك قدم مع المخرج نفسه فيلم “البؤساء” Les Misérables المقتبس عن رواية فيكتور هوغو، وتبذب بعدئذ مساره بين ظهور نوعي قليل واحتجاب ممتد، إلى أن أعلن اعتزاله النهائي للسينما والمسرح، مع أنه صرح لاحقا لصحيفة “لو باريزيان” بأن شغف التمثيل ما زال يراوده.